أسباب الإمساك المزمن: نظرة طبية شاملة وعميقة

يُعتبر الإمساك المزمن من أكثر الاضطرابات الهضمية شيوعًا في العصر الحديث، ويؤثر بشكل كبير على جودة الحياة اليومية للمصابين به. يتميز هذا الاضطراب بانخفاض وتيرة التبرز أو صعوبة إخراج البراز بشكل مستمر لفترة تتجاوز الثلاثة أشهر، وغالبًا ما يكون مصحوبًا بالشعور بعدم التفريغ الكامل للقولون، أو بآلام في البطن، أو بانتفاخ مزمن. لا يُعد الإمساك في حد ذاته مرضًا بقدر ما هو عرض لاضطراب عضوي أو وظيفي في الجهاز الهضمي أو في أجهزة الجسم الأخرى.

تشير الإحصائيات الطبية إلى أن الإمساك المزمن يصيب النساء أكثر من الرجال، وأنه يصبح أكثر شيوعًا مع التقدم في العمر. ويُصنف الإمساك إلى نوعين رئيسيين: الإمساك الأوّلي أو الوظيفي، والإمساك الثانوي الناتج عن حالات مرضية أخرى أو تناول بعض الأدوية. يهدف هذا المقال إلى استعراض الأسباب المختلفة للإمساك المزمن بأسلوب علمي مفصل يشمل الجوانب الفسيولوجية، والدوائية، والنفسية، والغذائية.

أولًا: الأسباب الفسيولوجية والوظيفية للإمساك المزمن

1. ضعف عضلات القولون والمستقيم

يؤدي ضعف أو كسل عضلات القولون إلى بطء في حركة التقلصات التي تدفع البراز نحو المستقيم، مما يتسبب في بقاء الفضلات لفترة أطول داخل القولون، وبالتالي فقدانها للماء وتصلبها، مما يزيد من صعوبة الإخراج. وتُعرف هذه الحالة بـ”كسل القولون”.

2. اضطرابات في الجهاز العصبي المعوي

يتحكم الجهاز العصبي المعوي (ENS) في حركة الأمعاء، ويؤدي أي خلل فيه إلى إبطاء حركتها أو انعدام التنسيق في انقباضات عضلات الأمعاء، مما يتسبب في الإمساك. وتُعد أمراض مثل داء هيرشسبرونغ أحد الأمثلة النادرة لهذه الحالات.

3. خلل في آلية التبرز (Dyssynergia)

في هذه الحالة، يعجز المريض عن تنسيق عضلات الحوض والمستقيم أثناء التبرز، مما يعيق خروج البراز بشكل طبيعي. وتُعرف هذه الحالة أيضًا باسم “اضطراب الإخلاء”، وتنتج عن اضطراب عضلي عصبي غالبًا ما يكون وظيفيًا أو ناتجًا عن إصابة عصبية.

ثانيًا: الأسباب الغذائية ونمط الحياة

1. قلة الألياف في النظام الغذائي

تمثل الألياف الغذائية عنصرًا حاسمًا في الحفاظ على انتظام حركة الأمعاء، حيث تساعد في زيادة حجم البراز وتليينه. يؤدي نقص الألياف، خصوصًا القابلة للذوبان، إلى تقليل حجم الفضلات وزيادة صلابتها، مما يساهم في حدوث الإمساك.

2. نقص السوائل

يؤدي الجفاف أو عدم شرب كمية كافية من الماء إلى تقليل محتوى الماء في القولون، مما يجعل البراز جافًا وصلبًا ويصعب مروره عبر الأمعاء. تعتبر كمية الماء اليومية أحد أهم العوامل التي تؤثر بشكل مباشر على قوام الفضلات وسرعة إخراجها.

3. قلة النشاط البدني

يساهم نمط الحياة الخامل، وخاصة الجلوس لفترات طويلة، في تباطؤ حركة الأمعاء. وقد لوحظ أن النشاط البدني المنتظم مثل المشي أو التمارين الهوائية يعزز من تقلصات القولون ويمنع الإمساك.

ثالثًا: الأسباب النفسية والسلوكية

1. التوتر والقلق المزمن

يرتبط الجهاز العصبي المركزي بالجهاز الهضمي ارتباطًا وثيقًا، فيما يُعرف بـ”محور الدماغ-الأمعاء”. تؤدي الضغوط النفسية والقلق المزمن إلى اضطراب هذا المحور، مما قد يؤدي إلى إبطاء حركة الأمعاء والإمساك.

2. الاكتئاب

يؤدي الاكتئاب إلى تغييرات في نمط الأكل والنشاط البدني ومستويات الهرمونات العصبية، وجميعها عوامل تؤثر سلبًا على حركة الأمعاء. كما أن بعض مضادات الاكتئاب تساهم في تفاقم الإمساك.

3. تجاهل الرغبة في التبرز

يؤدي تجاهل الرغبة الطبيعية للتبرز بشكل متكرر إلى فقدان هذه الإشارة العصبية تدريجيًا، مما يضعف الاستجابة الفسيولوجية للتفريغ ويؤدي إلى تراكم الفضلات داخل القولون.

رابعًا: الأسباب الدوائية

تتسبب بعض الأدوية بشكل مباشر أو غير مباشر في الإمساك المزمن، من خلال تأثيرها على حركة الأمعاء أو امتصاص الماء أو الوظائف العصبية.

خامسًا: الأسباب المرضية الثانوية

1. أمراض الغدة الدرقية

قصور الغدة الدرقية (Hypothyroidism) يؤدي إلى إبطاء العمليات الأيضية في الجسم، ومن ضمنها حركة الأمعاء. وغالبًا ما يُرافق هذا الإمساك أعراضًا أخرى كالإرهاق وزيادة الوزن وجفاف الجلد.

2. داء السكري

يتسبب السكري في تلف الأعصاب الطرفية، بما في ذلك الأعصاب التي تتحكم في الجهاز الهضمي، مما يضعف الحركة التمعجية للأمعاء. وتُعرف هذه الحالة باسم “الاعتلال العصبي السكري”.

3. أمراض النخاع الشوكي والأعصاب

مثل التصلب المتعدد، وإصابات العمود الفقري، ومرض باركنسون، جميعها تؤثر على الإشارات العصبية اللازمة لحركة الأمعاء والتنسيق العضلي أثناء التبرز.

4. الأورام وسرطان القولون

يؤدي وجود الأورام أو الكتل داخل الأمعاء إلى انسداد ميكانيكي جزئي أو كلي، مما يمنع البراز من المرور ويسبب إمساكًا مزمنًا مصحوبًا بدم في البراز أو فقدان غير مبرر في الوزن.

5. أمراض القولون الالتهابية

مثل داء كرون والتهاب القولون التقرحي، والتي قد تتسبب في نوبات متبادلة من الإسهال والإمساك، نتيجة التغيرات الالتهابية في بطانة الأمعاء.

سادسًا: التغيرات الهرمونية والفسيولوجية

1. الحمل

ترتفع مستويات هرمون البروجستيرون أثناء الحمل، مما يؤدي إلى استرخاء عضلات الأمعاء وبطء حركتها. كما يساهم ضغط الرحم المتزايد على الأمعاء في تفاقم المشكلة.

2. التغيرات الهرمونية في سن اليأس

تعاني العديد من النساء من الإمساك المزمن خلال فترة انقطاع الطمث نتيجة انخفاض مستويات الإستروجين والبروجستيرون، وتأثير ذلك على حركة الأمعاء ومستوى الترطيب الداخلي.

سابعًا: العوامل الهيكلية والتشريحية

1. تدلي المستقيم (Rectal Prolapse)

يحدث عندما ينزلق المستقيم من موضعه الطبيعي داخل الحوض إلى خارج فتحة الشرج، ما يعيق عملية التبرز.

2. القيلة المستقيمية (Rectocele)

وهي انتفاخ في جدار المهبل الخلفي نحو المستقيم، مما يتسبب في تجمع البراز في هذا الجيب وعدم خروجه بشكل طبيعي، خصوصًا عند النساء بعد الولادة أو في سن اليأس.

ثامنًا: الإمساك مجهول السبب

في بعض الحالات، لا يمكن تحديد سبب عضوي أو وظيفي واضح للإمساك المزمن، ويُعرف هذا النوع بـ”الإمساك مجهول السبب” أو “الإمساك الأولي”. يتم تشخيصه بعد استبعاد جميع الأسباب الأخرى باستخدام فحوصات شاملة تشمل تنظير القولون، الأشعة السينية مع مادة التباين، واختبارات وقت العبور القولوني.

المراجع

1. Bharucha AE, Pemberton JH, Locke GR. “American Gastroenterological Association technical review on constipation.” Gastroenterology. 2013;144(1):218–238.

2. Wald A, et al. “Management of Chronic Constipation in Adults.” Am J Gastroenterol. 2014;109(S1):S2–S26.

هذا المقال يوفر تغطية متكاملة للأسباب المتنوعة للإمساك المزمن، وهو يتناول الموضوع من زواياه العضوية والوظيفية والنفسية، إضافة إلى دوره كعرض لحالات مرضية أكثر تعقيدًا. تعد هذه المعلومات مرجعية أساسية لفهم هذا الاضطراب الشائع، وتشكل قاعدة مهمة للوقاية والتشخيص والعلاج.